التجديد في الشعر
التجديد في العشر
عندما نقول : حديث أو جديد فهذا يدلنا بالتلازم على أن هناك قديم ، إذن هما مفهومان متقابلان في المعنى كما أنهما مرتبطان ارتباطا وثيقا بالواقع التاريخي لمرحلة محددة وليس لهما ثباتا معجميا يصح تنزيله على الواقع في كل وقت ، لذا فجديد اليوم سيكون قديم الغد وهكذا ، إلا أن الحداثة كمفهوم أدبي مؤدلج التصق بمرحلة معينة من تاريخ الأدب الأجنبي لذا كانت الضرورة توجب تسمية المرحلة التي تليها بمرحلة ما بعد الحداثة ، وفي رأيي أن سبب ذلك هو توافر الكم الأكثف من أساليب التحديث ومدارسه في هذه المرحلة أكثر مما قبلها بحيث أخذت شكل الثورة التي طالت كل شيء في بنية الأدب .
إذاً فالتحديث ببساطة هو إضافة الابتكار والإبداع الحديث على الأصل القديم ، وبما أننا نسمه بهذا الوصف الذي يحمل في دلالته معنى الجدة والحالية فهذا يجعله ممتنعا على التوصيف والتحديد الاصطلاحيين ، حيث أن الحديث لم يحظ بعد بالعمر الزمني الكافي ليصطلح عليه أحد ، بينما عرفته جين أوستن عند تناولها له كمفهوم إيديلوجي أدبي بأنه :
” حاله من التغير ، ربما للأفضل ” .
لذا يبقى التحديث مجهول الماهية معلوم السمة والأثر ، فكل ابتكار شعري سواء كان في النسق أو في الصورة أو في المفردة أو في العبارة أو في الشكل أو في المضمون أو في أي شيء آخر ما دام أنه يتماشى مع أصول الذائقة العامة ولا يخل بقوانين الشعر الضمنية ويتصف بترك الأثر الانفعالي اللذيذ لدى المتلقي شأنه شأن كل إبداع بكر يغمر المرء بالمتعة والانبهار والبهجة فهو تحديث وتجديد معتبر وهو والحال كهذه مستند مستقل لإنجاح القصيدة ، ولذا يكرر : عزرا باوند مقولته ” اجعلها جديدة ” .
ورغم صعوبة حد التحديث والحداثي والحديث حدا معجميا جامعا مانعا إلا أنه يتميز ببعض السمات المظهرة له، فهو عادة يأتي بأشكال مفاجئة وحادة مغايرة للسائد ومعلنة رفضها للأشكال الثابتة والسلطة الثقافية الراكدة في ذوق برجوازي عام ، ولعل أبرز سماته هي نقل القصيدة من حافة المعنى البسيط المباشر إلى مندوحة الترميز الواعي والغموض الشفاف والاحتمالات المفتوحة .
وإليك مثالان أحدهما تقليدي والآخر حديث لترى التفاوت بينهما في القالب اللفظي العام أو في قرب المعنى وبعده .
يقول ضيدان بن قضعان :
يا وجودي كل ما هب نسناس الشمال …… وجد من حده زمانه على اللي ما يبيه
ويا وجودي كل ما اضحيت ثم مال الظلال ….. لا غفت عيني ولا ذقت شيِ مشتهيه
فيما يقول مهدي بن سعيد :
هذي حياة آدم : ثقة .. صبر .. تشكيك …….. يا عيون حوا حاولي تفهمينه
من بعثرت كينونته لمسة يديك ………….. مشغول ، يبني من خرابك مدينة
أحدهما تقليدي أو قديم أو مبني على النمط السابق لعصرنا والآخر أضيف عليه بعض التحديثات الظاهرة في العبارة والمضمون ، لكن أيهما القديم وأيهما الحديث ؟ اختر أنت الجواب المناسب .
ما الداعي للتجديد ؟
الإنسان مجبول على البحث عن الأفضل ، فهو في رحلة قديمة ودائمة ليطور أشياءه وأدواته ، لذا فالتغيير والتجديد فطرة الإنسان ، حسنا ؟ لكن من قال أن تحديث القصيدة كما نرى اليوم هو نوع من الانتقال من الفاضل للأفضل ؟ من يحدد هذه الأفضلية ؟
والجواب : لا أحد بعينه يستطيع أن يحدد هذا منفردا ، بل الأمر عبارة عن عرف وتواضع ضمني أو صريح أحيانا، وبما أن الشعر والأدب عموما مسألة ذوقية فإنه يحكم فيه بالأغلبية ، لكن الأغلبية الواعية ، وهم النخبة إن شئت ، أو أصحاب الرؤى ، فإن كان للشعر أهل فهؤلاء أهله ، لذا حين يشكل عليك أمر في الشعر فالمنطق يقول : فاسألوا أهل الشعر .
حسنا ، ما الداعي للتجديد إذن ؟ السؤال يجب أن يكون ما المانع من التجديد ؟ إذ الأصل أن الإنسان يطور كل ما حوله وهو في بحث دؤوب عن التغيير والتجديد ، ولو بقي على حال واحد أكله الصدأ والموت .
فالتغيير طبيعة بشرية ومطلب فني أيضا ، يقول توني بينكني : ” على الفن أن يواكب من حيث الموضوع والشكل تلك الحيوية المنعشة لمجتمع تخطى التقليدية وهو يزيح دون هوادة مخلفات الإقطاع المقيدة محررا ليس فقط العلم والصناعة بل أيضا الإمكانات التجريبية للذات الفردية ” .
ولاشك أن التجديد يأتي بشكل تدريجي بطيء في الأحوال الطبيعية للمجتمعات ، كما أنه يأتي بهدوء وتراكم على شكل تحول غير ملاحظ في الذائقة والناس ، بالرغم من وجود نماذج تاريخية عربية كان التغيير فيها صارخا ، ومن ذلك :
بشار بن برد أول من كسر قاعدة المحافظة وأنشأ نظرية الفساد والانحلال داخل بنية القصيدة .
سئل بشار بن برد : بم فقت أهل عمرك وسبقت أبناء عصرك في حسن معاني الشعر وتهذيب ألفاظه ؟ فقال : ” لأني لم أقبل كل ما تورده علي قريحتي ويناجيني به طبعي .. ” ، فهو لا يؤمن بشعر الذاكرة والتكرار والطبيعة .
أبو نواس ثار على الأطلال واعتبرها تقليدا باليا ، فقال : دع الأطلال تسفيها الجنوبُ .
ظهرت جماعة الديوان المكونة من العقاد و شكري و المازني وكان شعار الجماعة الثورة على نماذج السلفية الإحيائية المجايلة لها وكانت غايتهم كما أعلنوها : إقامة حد بين عهدين لم يبق ما يسوغ اتصالهما والاختلاط بينهما .
جيل الإنترنت من شعراء العرب وشعراء الخليج الشعبيين على وجه التحديد قفز قفزات واسعة للتحول السريع والملاحظ من نمط شعري سائد إلى نمط جديد ، وهو بهذا التسارع والكثرة يسجل حالة من التغير الصارخ على خلاف الحالات الطبيعية للتغير الجمعي .
وعلى الرغم من كون الطبع الإنساني معروف بالتغير والتطور على مستوى الأجيال خصوصا ، إلا أن هناك عينات من الناس الكبار يتقمصون دور الأب الروحي لكل شاعر قادم للتو ، ويمارسون نوعا رديئا من الوصاية على الشعر والشعراء ، لذا يحاولون إيقاف الزمن عند ذائقتهم فقط ، ويطالبون الكل بالسير على نمطهم فقط يقول عنهم ريموند ويليامز : “هناك سلطة ثقافية دائمة للحاضرة من حيث قبضتها على دور النشر والصحف والمجلات ووجه المفارقة الساخرة أن هذه التكوينات في معظم الحالات تكوينات متخلفة فالأشكال الثقافية والفنية التي تضرب جذورها فيها هي لأسباب اجتماعية خاصة في المعادلات التي تدعمها وتضع حدودها بين “الأقلية” و “الجماهير” ، بين “الكيف” و “الشعبي” إنما ترجع لحقبة أقدم .
المدارس الشعرية الحديثة
بسبب تخلف العرب عن ركب الحضارة قرونا طويلة ، هذا التخلف المنسحب على كل المجالات الحياتية ومنها الأدب فإن المدارس الأصول في الأدب كلها غربية ، ولاحتكاك العرب مؤخرا بالغرب حجزوا مقاعدهم في الصفوف الأخيرة ، ورضوا بدور التابع المتأثر السلبي في طرفي القطب .
وقد شهد عالم الأدب في الحقبة التاريخية المعاصرة وما قبلها بقليل الكثير من التحديث والإبداع في جميع مجالاته ، ومنها الشعر كما يعنينا هنا ، فظهرت مدارس أدبية وفنية جديدة وغريبة عن النمط السائد ، ومن ذلك المدرسة الدادائية والمستقبلية والصورية والسريالية والشكلانية وغيرها .
وإذا كان أكثر هذه المدارس المذكورة ضارب في الرمزية والغموض بعيدا عن الوضوح والمباشرة التي تميز الأدب التقليدي ، فإنه قد تولدت من تلك المدارس الكبرى اتجاهات أدبية تأثرت بها في بعض النواحي وأبقت على عامل المعنى نشطا ، فكان تأثرا إيجابيا يبعد عن التقريرية المملة باتجاه الرمزية المعقولة ، ومن تلك الاتجاهات المتفرعة في الشعر الشعبي :
مدرسة الرحابنة في الشعر : وهي في نظري من أوائل المدارس الشعرية التي رسمت خطا ثابتا لكتابة القصيدة الشعبية الحديثة ، وقد وسع صوت فيروز الخالد انتشار هذه المدرسة حتى وصلت إلى أعماق الجزيرة العربية وأطرافها ، ومن أمثلة التجديد في القصيدة الرحبانية أغنية ” وينن ” التي ظهرت سنة 1972م وكلماتها تقول :
وينن .. وينن
وين صواتن وين وجوهن .. وينن
صار في وادي بيني و بينن .. وينن
ركبوا عربيات الوقت و هربوا بالنسيان
و تركوا ضحكات ولادن منسيي عالحيطان
تركوا لي المفاتيح، تركوا صوت الريح و راحوا ما تركوا عنوان .
ولقد تأثر أيضا بهذه المدرسة بعض شعراء الخليج الشعبيين في وقت مبكر ، حيث كان السائد في تلك الحقبة هو الشعر التقليدي .
ومن أولئك : فائق عبد الجليل ، بدر بن عبد المحسن ، وغيرهما .
ثم انفتح باب التحديث في القصيدة على مصراعيه بعد التسعينات أو قبلها بقليل ، وذلك بعد الثورة التقنية التي أتاحت للشاعر الخليجي الاحتكاك بغيره من ذوي الاتجاهات الفكرية والأدبية الأخرى ، ومن ثم اندماجه شاء أم أبى في نطاق أوسع من تجارب الآخرين وثقافاتهم ، فسال الفصيح على الشعبي والشعر على النثر والأداب على الفنون ، واختلطت التجارب والاتجاهات .
ولذا نلحظ جنوح الشاعر الخليجي الشاب ، وخصوصا شعراء الإنترنت والمنتديات إلى تحديث القصيدة بتسارع أكبر ، وبكمية أكثف ، تصل أحيانا إلى حد التطرف والغلو .
درجات التجديد ومحفزاته :
لا شك أن التحديث والتجديد في القصيدة الشعبية يتفاوت من شاعر إلى آخر ، ويتنوع أيضا ، وهذا التفاوت والتنوع راجع إلى أسباب ومحفزات كثيرة ، أهمها :
الوعي ، أو لنقل مرونة الاختلاط بالآخر وقد يصل إلى الاندماج في ثقافته ولو إلى حد ما .
البيئة الشعرية ، فباختلافها تختلف قابلية الشاعر تبعا لذائقته في تحديث القصيدة .
البحث عن التميز والاختلاف ولفت الأنظار ، وهذا أسوأ الأسباب وهو الذي يوقع أكثر الشعراء المحدثين في الخلل .
لذا يمكنني تقسيم الشعراء من حيث درجات التجديد إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : شعراء بالغوا في تحديث القصيدة حتى توغلوا في الرمزية والغموض إلى درجة العبثية أحيانا، وبالصدفة وقعت على عبارة مضغوطة للجميل فهيد العديم يتكلم بإيجاز شديد فيقول : ” الموغل في التحديث,والمُتشبث بالتقليدية, كلاهما يُفسد “الرغيف” ، فالأول –غالباً-تأخذه العجلة فيقدمه نيئاً, والآخر عابه البطء فقدمه محترقاً!” .
وجدير بالذكر أن شعراء هذا القسم مختلفون في منطلقاتهم التي ينطلقون منها إلى تلك الرمزية .
فالبعض ينطلق من وعي وإدراك ورؤية فلسفية حول الشعر وآلية طرحه ، ولو كان أدونيس شاعرا شعبيا لكان خير من يمثل هذه الفئة ، لكن هناك اسم شعري شاب يصلح أن يكون ممثلا لهذه الفئة ، وهو الشاعر القطري فهـد المرسل ، وهؤلاء قد يراوحون قليلا بين الانغلاق التام على المعنى وبين المواربة الدلالية المقبولة .
والبعض الآخر ينطلق من جهلٍ بأدوات الترميز الدلالي ، أو قلْ : قلة علم ، فهم ليسوا بمستوى الفريق الأول من حيث الاقتدار اللغوي والفني ، وستجد مثالا لهؤلاء بعض الشعراء العمانيين الشباب .
ومن شعراء هذا القسم الترميزي : أحمد الفهيد ، حابس المشعل ، الجازية ، نور سالم ، بدر صفوق ، خميس المقيمي ، جاسم سلمان ، محمد المرزوقي ، على تفاوت بينهم .
وهؤلاء اشتهروا بالكتابة الحديثة في كل أو جل نتاجهم الشعري ، وبعضهم قد يكون بدأ مسيرته الشعرية بأسلوب أقل حداثية ثم اتجه شيئا فشيئا واستقر أخيرا في حضن المدرسة الحديثة جدا .
ويجتمع هؤلاء في المستوى التعليمي المتقدم ، بين مثقفين وأنصاف مثقفين يتشبهون بهم فيحسنون تارة ويفشلون أخرى .
القسم الثاني : شعراء استثمروا تحديث القصيدة أي استثمار ، فوازنوا بين الحفاظ على المعنى العام فيما تلاعبوا بالمعنى الخاص بين الإظهار والتعتيم ، مع الأخذ بكل أداة حديثة تضيف للقصيدة إضافة تحسينية .
ومن هؤلاء : مهدي بن سعيد ، الحميدي الثقفي ، بدر بن عبد المحسن ، فهـد عافت ، نايف صقر ، تركي حمدان ، طلال الرشيد ، سليمان المانع ، فهيد العديم ، عبد المجيد الزهراني ، محمد بن ساقان (من برنامج شاعر المليون الأول ) .
وهم ما يطلق عليهم النخبة ، لأنهم ذوي مستويات تعليمية متقدمة فيستطيعون الكتابة حول الكتابة نفسها، وأكثرهم لديه القدرة على التنظير والرؤية النقدية فيما يتعلق بالأدوات الشعرية وآلية الكتابة ، والمجموعة الأولى من القسم الأول تشترك معهم في هذا ، إلا أن هؤلاء أكثر قبولا لدى المتلقي وأوسع انتشارا بسبب استعمالهم الذكي للتحديث .
القسم الثالث : شعراء نبذوا التحديث والحداثة قصدا أو عجزا ، وبقوا على الطريقة الكلاسيكية في كتابة القصيدة ، ويطلق عليهم الشعراء التقليديون .
وهؤلاء قد يكونون شعراء بدأوا وانتهوا في هذه المدرسة وقد يكونون شعراء لديهم نتاج شعري منوع فمرة يكتبون بهذا الأسلوب ومرة أخرى يكتبون بذاك الأسلوب لكنهم أقرب في المحصلة النهائية إلى التقليدية منهم إلى الحداثة ، ويجدر بي التمثيل بشاعرين تعود الناس أن يذكروهما معا ، وكأنهما من مدرسة شعرية واحدة ، وهما : نايف صقر ، ومساعد الرشيدي ، فيما نايف صقر حداثي كلاسيكي ، أما مساعد الرشيدي فهو كلاسيكي حديث ، وذلك بناء على استعمالهما المتأرجح للمادة الحديثة في القصيدة ، فتجد النص الواحد يحتوي على صور حديثة متفرقة أو أسلوب مبتكر في مقطع أو مقطعين بينما في الأماكن الأخرى من النص أو حتى في هيكله الكلي يكون تقليديا ، أو العكس .
ومن الشعراء التقليديين : عبدالله بن عون ، غازي بن عون ، عبد الرحمن العطاوي ، خلف العتيبي ، راشد بن جعيثن ، حمد محسن النعيمي ، طلال السعيد ، شعراء برنامج ركن البادية (الكويت وقطر ) ، خالد الفيصل ، محمد بن راشد آل مكتوم ، سعد بن جدلان ، ضيدان بن قضعان ، سلطان بن وسام ، متعب التركي ، مساعد الرشيدي ، ناصر القحطاني ، علي بن حمري ، عابرة سبيل ، صدى الحرمان ، حامد زيد ، خالد المريخي ، محمد بن الذيب ، شعراء المحاورة ، محمد بن فطيس ( شاعر المليون الأول) ، وبقية الشعراء الخمسة المنافسين على شاعر المليون الأول ، والكثير من الأسماء المتواجدة تحت الضوء وفي المجلات الشعبية .
أثر التجديد على القصيدة
الاستعمال الحديث لأدوات الإبداع في القصيدة ، أو ما يسميها وليامز ” الحداثة الواعية” يكون بحد ذاته عنصرا فائق القوة لإنجاح القصيدة ، فالمتلقي يبهره الجديد دوما ، وعلى هذا تكون القصيدة الحديثة محتاجة بشكل أقل لأدوات الإبداع الأخرى التي تحتاج لها القصيدة المفرغة من التحديث .
أما القصيدة التقليدية فإنها تحتاج إلى محسنات كثيفة تسد الثغرات الفارغة لعناصر التحديث ، لذا نرى الشعراء الكبار المنتسبين للمدرسة التقليدية يعتمدون أساليب وخيارات إضافية لإنجاح القصيدة ، كاستعمال عنصر السلاسة الفعالة في المقطع الشعري كما في قول خالد الفيصل : ” قالت من انت وقلت مجموعة انسان ” أو الاقتباس الذكي للعبارات الشائعة والمحفوظة وذلك كما في قول مساعد الرشيدي : ” حل عن عيني ” والبيت بيتك ” ، وقول علي بن حمري : ” والرجال يذبح في طلي ” .
أو باللجوء للمحسنات البلاغية المشهورة كالطباق والجناس وغيرها وذلك كما في قول مساعد الرشيدي : “ما قلت لك عمر سيف العشق ما يقتلك … ما تشوفني حي قدامك وانا أموت فيك ”
وقول ناصر القحطاني : ” قمت اصيح الصبح وينه والعرب ما رد احدها … ما سمعت إلا صدى صوتي يصيح الصبح وينه ” .
فنستخلص من ذلك ، أن القصيدة كلما خلت من التحديث كلما احتاجت أكثر لاستعمال الأدوات البلاغية المعروفة كي تظهر قصيدة ناجحة.
وهنا يجدر التنويه بأن هذا الرأي لا يتخذ من التحديث كأسلوب شعري منهجا مستقلا في مقابل المنهج القديم لإنجاح النص الشعري ، إنما هو رأي مرتبط بشكل وثيق بعصرنا الذي نعيشه بأسمائه الحاضرة ومادته الأدبية المطروحة ، فلا يصلح استصحاب هذا الرأي لأزمان أخرى قد لا يكون ساري الصلاحية فيها
التجديد في العشر
عندما نقول : حديث أو جديد فهذا يدلنا بالتلازم على أن هناك قديم ، إذن هما مفهومان متقابلان في المعنى كما أنهما مرتبطان ارتباطا وثيقا بالواقع التاريخي لمرحلة محددة وليس لهما ثباتا معجميا يصح تنزيله على الواقع في كل وقت ، لذا فجديد اليوم سيكون قديم الغد وهكذا ، إلا أن الحداثة كمفهوم أدبي مؤدلج التصق بمرحلة معينة من تاريخ الأدب الأجنبي لذا كانت الضرورة توجب تسمية المرحلة التي تليها بمرحلة ما بعد الحداثة ، وفي رأيي أن سبب ذلك هو توافر الكم الأكثف من أساليب التحديث ومدارسه في هذه المرحلة أكثر مما قبلها بحيث أخذت شكل الثورة التي طالت كل شيء في بنية الأدب .
إذاً فالتحديث ببساطة هو إضافة الابتكار والإبداع الحديث على الأصل القديم ، وبما أننا نسمه بهذا الوصف الذي يحمل في دلالته معنى الجدة والحالية فهذا يجعله ممتنعا على التوصيف والتحديد الاصطلاحيين ، حيث أن الحديث لم يحظ بعد بالعمر الزمني الكافي ليصطلح عليه أحد ، بينما عرفته جين أوستن عند تناولها له كمفهوم إيديلوجي أدبي بأنه :
” حاله من التغير ، ربما للأفضل ” .
لذا يبقى التحديث مجهول الماهية معلوم السمة والأثر ، فكل ابتكار شعري سواء كان في النسق أو في الصورة أو في المفردة أو في العبارة أو في الشكل أو في المضمون أو في أي شيء آخر ما دام أنه يتماشى مع أصول الذائقة العامة ولا يخل بقوانين الشعر الضمنية ويتصف بترك الأثر الانفعالي اللذيذ لدى المتلقي شأنه شأن كل إبداع بكر يغمر المرء بالمتعة والانبهار والبهجة فهو تحديث وتجديد معتبر وهو والحال كهذه مستند مستقل لإنجاح القصيدة ، ولذا يكرر : عزرا باوند مقولته ” اجعلها جديدة ” .
ورغم صعوبة حد التحديث والحداثي والحديث حدا معجميا جامعا مانعا إلا أنه يتميز ببعض السمات المظهرة له، فهو عادة يأتي بأشكال مفاجئة وحادة مغايرة للسائد ومعلنة رفضها للأشكال الثابتة والسلطة الثقافية الراكدة في ذوق برجوازي عام ، ولعل أبرز سماته هي نقل القصيدة من حافة المعنى البسيط المباشر إلى مندوحة الترميز الواعي والغموض الشفاف والاحتمالات المفتوحة .
وإليك مثالان أحدهما تقليدي والآخر حديث لترى التفاوت بينهما في القالب اللفظي العام أو في قرب المعنى وبعده .
يقول ضيدان بن قضعان :
يا وجودي كل ما هب نسناس الشمال …… وجد من حده زمانه على اللي ما يبيه
ويا وجودي كل ما اضحيت ثم مال الظلال ….. لا غفت عيني ولا ذقت شيِ مشتهيه
فيما يقول مهدي بن سعيد :
هذي حياة آدم : ثقة .. صبر .. تشكيك …….. يا عيون حوا حاولي تفهمينه
من بعثرت كينونته لمسة يديك ………….. مشغول ، يبني من خرابك مدينة
أحدهما تقليدي أو قديم أو مبني على النمط السابق لعصرنا والآخر أضيف عليه بعض التحديثات الظاهرة في العبارة والمضمون ، لكن أيهما القديم وأيهما الحديث ؟ اختر أنت الجواب المناسب .
ما الداعي للتجديد ؟
الإنسان مجبول على البحث عن الأفضل ، فهو في رحلة قديمة ودائمة ليطور أشياءه وأدواته ، لذا فالتغيير والتجديد فطرة الإنسان ، حسنا ؟ لكن من قال أن تحديث القصيدة كما نرى اليوم هو نوع من الانتقال من الفاضل للأفضل ؟ من يحدد هذه الأفضلية ؟
والجواب : لا أحد بعينه يستطيع أن يحدد هذا منفردا ، بل الأمر عبارة عن عرف وتواضع ضمني أو صريح أحيانا، وبما أن الشعر والأدب عموما مسألة ذوقية فإنه يحكم فيه بالأغلبية ، لكن الأغلبية الواعية ، وهم النخبة إن شئت ، أو أصحاب الرؤى ، فإن كان للشعر أهل فهؤلاء أهله ، لذا حين يشكل عليك أمر في الشعر فالمنطق يقول : فاسألوا أهل الشعر .
حسنا ، ما الداعي للتجديد إذن ؟ السؤال يجب أن يكون ما المانع من التجديد ؟ إذ الأصل أن الإنسان يطور كل ما حوله وهو في بحث دؤوب عن التغيير والتجديد ، ولو بقي على حال واحد أكله الصدأ والموت .
فالتغيير طبيعة بشرية ومطلب فني أيضا ، يقول توني بينكني : ” على الفن أن يواكب من حيث الموضوع والشكل تلك الحيوية المنعشة لمجتمع تخطى التقليدية وهو يزيح دون هوادة مخلفات الإقطاع المقيدة محررا ليس فقط العلم والصناعة بل أيضا الإمكانات التجريبية للذات الفردية ” .
ولاشك أن التجديد يأتي بشكل تدريجي بطيء في الأحوال الطبيعية للمجتمعات ، كما أنه يأتي بهدوء وتراكم على شكل تحول غير ملاحظ في الذائقة والناس ، بالرغم من وجود نماذج تاريخية عربية كان التغيير فيها صارخا ، ومن ذلك :
بشار بن برد أول من كسر قاعدة المحافظة وأنشأ نظرية الفساد والانحلال داخل بنية القصيدة .
سئل بشار بن برد : بم فقت أهل عمرك وسبقت أبناء عصرك في حسن معاني الشعر وتهذيب ألفاظه ؟ فقال : ” لأني لم أقبل كل ما تورده علي قريحتي ويناجيني به طبعي .. ” ، فهو لا يؤمن بشعر الذاكرة والتكرار والطبيعة .
أبو نواس ثار على الأطلال واعتبرها تقليدا باليا ، فقال : دع الأطلال تسفيها الجنوبُ .
ظهرت جماعة الديوان المكونة من العقاد و شكري و المازني وكان شعار الجماعة الثورة على نماذج السلفية الإحيائية المجايلة لها وكانت غايتهم كما أعلنوها : إقامة حد بين عهدين لم يبق ما يسوغ اتصالهما والاختلاط بينهما .
جيل الإنترنت من شعراء العرب وشعراء الخليج الشعبيين على وجه التحديد قفز قفزات واسعة للتحول السريع والملاحظ من نمط شعري سائد إلى نمط جديد ، وهو بهذا التسارع والكثرة يسجل حالة من التغير الصارخ على خلاف الحالات الطبيعية للتغير الجمعي .
وعلى الرغم من كون الطبع الإنساني معروف بالتغير والتطور على مستوى الأجيال خصوصا ، إلا أن هناك عينات من الناس الكبار يتقمصون دور الأب الروحي لكل شاعر قادم للتو ، ويمارسون نوعا رديئا من الوصاية على الشعر والشعراء ، لذا يحاولون إيقاف الزمن عند ذائقتهم فقط ، ويطالبون الكل بالسير على نمطهم فقط يقول عنهم ريموند ويليامز : “هناك سلطة ثقافية دائمة للحاضرة من حيث قبضتها على دور النشر والصحف والمجلات ووجه المفارقة الساخرة أن هذه التكوينات في معظم الحالات تكوينات متخلفة فالأشكال الثقافية والفنية التي تضرب جذورها فيها هي لأسباب اجتماعية خاصة في المعادلات التي تدعمها وتضع حدودها بين “الأقلية” و “الجماهير” ، بين “الكيف” و “الشعبي” إنما ترجع لحقبة أقدم .
المدارس الشعرية الحديثة
بسبب تخلف العرب عن ركب الحضارة قرونا طويلة ، هذا التخلف المنسحب على كل المجالات الحياتية ومنها الأدب فإن المدارس الأصول في الأدب كلها غربية ، ولاحتكاك العرب مؤخرا بالغرب حجزوا مقاعدهم في الصفوف الأخيرة ، ورضوا بدور التابع المتأثر السلبي في طرفي القطب .
وقد شهد عالم الأدب في الحقبة التاريخية المعاصرة وما قبلها بقليل الكثير من التحديث والإبداع في جميع مجالاته ، ومنها الشعر كما يعنينا هنا ، فظهرت مدارس أدبية وفنية جديدة وغريبة عن النمط السائد ، ومن ذلك المدرسة الدادائية والمستقبلية والصورية والسريالية والشكلانية وغيرها .
وإذا كان أكثر هذه المدارس المذكورة ضارب في الرمزية والغموض بعيدا عن الوضوح والمباشرة التي تميز الأدب التقليدي ، فإنه قد تولدت من تلك المدارس الكبرى اتجاهات أدبية تأثرت بها في بعض النواحي وأبقت على عامل المعنى نشطا ، فكان تأثرا إيجابيا يبعد عن التقريرية المملة باتجاه الرمزية المعقولة ، ومن تلك الاتجاهات المتفرعة في الشعر الشعبي :
مدرسة الرحابنة في الشعر : وهي في نظري من أوائل المدارس الشعرية التي رسمت خطا ثابتا لكتابة القصيدة الشعبية الحديثة ، وقد وسع صوت فيروز الخالد انتشار هذه المدرسة حتى وصلت إلى أعماق الجزيرة العربية وأطرافها ، ومن أمثلة التجديد في القصيدة الرحبانية أغنية ” وينن ” التي ظهرت سنة 1972م وكلماتها تقول :
وينن .. وينن
وين صواتن وين وجوهن .. وينن
صار في وادي بيني و بينن .. وينن
ركبوا عربيات الوقت و هربوا بالنسيان
و تركوا ضحكات ولادن منسيي عالحيطان
تركوا لي المفاتيح، تركوا صوت الريح و راحوا ما تركوا عنوان .
ولقد تأثر أيضا بهذه المدرسة بعض شعراء الخليج الشعبيين في وقت مبكر ، حيث كان السائد في تلك الحقبة هو الشعر التقليدي .
ومن أولئك : فائق عبد الجليل ، بدر بن عبد المحسن ، وغيرهما .
ثم انفتح باب التحديث في القصيدة على مصراعيه بعد التسعينات أو قبلها بقليل ، وذلك بعد الثورة التقنية التي أتاحت للشاعر الخليجي الاحتكاك بغيره من ذوي الاتجاهات الفكرية والأدبية الأخرى ، ومن ثم اندماجه شاء أم أبى في نطاق أوسع من تجارب الآخرين وثقافاتهم ، فسال الفصيح على الشعبي والشعر على النثر والأداب على الفنون ، واختلطت التجارب والاتجاهات .
ولذا نلحظ جنوح الشاعر الخليجي الشاب ، وخصوصا شعراء الإنترنت والمنتديات إلى تحديث القصيدة بتسارع أكبر ، وبكمية أكثف ، تصل أحيانا إلى حد التطرف والغلو .
درجات التجديد ومحفزاته :
لا شك أن التحديث والتجديد في القصيدة الشعبية يتفاوت من شاعر إلى آخر ، ويتنوع أيضا ، وهذا التفاوت والتنوع راجع إلى أسباب ومحفزات كثيرة ، أهمها :
الوعي ، أو لنقل مرونة الاختلاط بالآخر وقد يصل إلى الاندماج في ثقافته ولو إلى حد ما .
البيئة الشعرية ، فباختلافها تختلف قابلية الشاعر تبعا لذائقته في تحديث القصيدة .
البحث عن التميز والاختلاف ولفت الأنظار ، وهذا أسوأ الأسباب وهو الذي يوقع أكثر الشعراء المحدثين في الخلل .
لذا يمكنني تقسيم الشعراء من حيث درجات التجديد إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : شعراء بالغوا في تحديث القصيدة حتى توغلوا في الرمزية والغموض إلى درجة العبثية أحيانا، وبالصدفة وقعت على عبارة مضغوطة للجميل فهيد العديم يتكلم بإيجاز شديد فيقول : ” الموغل في التحديث,والمُتشبث بالتقليدية, كلاهما يُفسد “الرغيف” ، فالأول –غالباً-تأخذه العجلة فيقدمه نيئاً, والآخر عابه البطء فقدمه محترقاً!” .
وجدير بالذكر أن شعراء هذا القسم مختلفون في منطلقاتهم التي ينطلقون منها إلى تلك الرمزية .
فالبعض ينطلق من وعي وإدراك ورؤية فلسفية حول الشعر وآلية طرحه ، ولو كان أدونيس شاعرا شعبيا لكان خير من يمثل هذه الفئة ، لكن هناك اسم شعري شاب يصلح أن يكون ممثلا لهذه الفئة ، وهو الشاعر القطري فهـد المرسل ، وهؤلاء قد يراوحون قليلا بين الانغلاق التام على المعنى وبين المواربة الدلالية المقبولة .
والبعض الآخر ينطلق من جهلٍ بأدوات الترميز الدلالي ، أو قلْ : قلة علم ، فهم ليسوا بمستوى الفريق الأول من حيث الاقتدار اللغوي والفني ، وستجد مثالا لهؤلاء بعض الشعراء العمانيين الشباب .
ومن شعراء هذا القسم الترميزي : أحمد الفهيد ، حابس المشعل ، الجازية ، نور سالم ، بدر صفوق ، خميس المقيمي ، جاسم سلمان ، محمد المرزوقي ، على تفاوت بينهم .
وهؤلاء اشتهروا بالكتابة الحديثة في كل أو جل نتاجهم الشعري ، وبعضهم قد يكون بدأ مسيرته الشعرية بأسلوب أقل حداثية ثم اتجه شيئا فشيئا واستقر أخيرا في حضن المدرسة الحديثة جدا .
ويجتمع هؤلاء في المستوى التعليمي المتقدم ، بين مثقفين وأنصاف مثقفين يتشبهون بهم فيحسنون تارة ويفشلون أخرى .
القسم الثاني : شعراء استثمروا تحديث القصيدة أي استثمار ، فوازنوا بين الحفاظ على المعنى العام فيما تلاعبوا بالمعنى الخاص بين الإظهار والتعتيم ، مع الأخذ بكل أداة حديثة تضيف للقصيدة إضافة تحسينية .
ومن هؤلاء : مهدي بن سعيد ، الحميدي الثقفي ، بدر بن عبد المحسن ، فهـد عافت ، نايف صقر ، تركي حمدان ، طلال الرشيد ، سليمان المانع ، فهيد العديم ، عبد المجيد الزهراني ، محمد بن ساقان (من برنامج شاعر المليون الأول ) .
وهم ما يطلق عليهم النخبة ، لأنهم ذوي مستويات تعليمية متقدمة فيستطيعون الكتابة حول الكتابة نفسها، وأكثرهم لديه القدرة على التنظير والرؤية النقدية فيما يتعلق بالأدوات الشعرية وآلية الكتابة ، والمجموعة الأولى من القسم الأول تشترك معهم في هذا ، إلا أن هؤلاء أكثر قبولا لدى المتلقي وأوسع انتشارا بسبب استعمالهم الذكي للتحديث .
القسم الثالث : شعراء نبذوا التحديث والحداثة قصدا أو عجزا ، وبقوا على الطريقة الكلاسيكية في كتابة القصيدة ، ويطلق عليهم الشعراء التقليديون .
وهؤلاء قد يكونون شعراء بدأوا وانتهوا في هذه المدرسة وقد يكونون شعراء لديهم نتاج شعري منوع فمرة يكتبون بهذا الأسلوب ومرة أخرى يكتبون بذاك الأسلوب لكنهم أقرب في المحصلة النهائية إلى التقليدية منهم إلى الحداثة ، ويجدر بي التمثيل بشاعرين تعود الناس أن يذكروهما معا ، وكأنهما من مدرسة شعرية واحدة ، وهما : نايف صقر ، ومساعد الرشيدي ، فيما نايف صقر حداثي كلاسيكي ، أما مساعد الرشيدي فهو كلاسيكي حديث ، وذلك بناء على استعمالهما المتأرجح للمادة الحديثة في القصيدة ، فتجد النص الواحد يحتوي على صور حديثة متفرقة أو أسلوب مبتكر في مقطع أو مقطعين بينما في الأماكن الأخرى من النص أو حتى في هيكله الكلي يكون تقليديا ، أو العكس .
ومن الشعراء التقليديين : عبدالله بن عون ، غازي بن عون ، عبد الرحمن العطاوي ، خلف العتيبي ، راشد بن جعيثن ، حمد محسن النعيمي ، طلال السعيد ، شعراء برنامج ركن البادية (الكويت وقطر ) ، خالد الفيصل ، محمد بن راشد آل مكتوم ، سعد بن جدلان ، ضيدان بن قضعان ، سلطان بن وسام ، متعب التركي ، مساعد الرشيدي ، ناصر القحطاني ، علي بن حمري ، عابرة سبيل ، صدى الحرمان ، حامد زيد ، خالد المريخي ، محمد بن الذيب ، شعراء المحاورة ، محمد بن فطيس ( شاعر المليون الأول) ، وبقية الشعراء الخمسة المنافسين على شاعر المليون الأول ، والكثير من الأسماء المتواجدة تحت الضوء وفي المجلات الشعبية .
أثر التجديد على القصيدة
الاستعمال الحديث لأدوات الإبداع في القصيدة ، أو ما يسميها وليامز ” الحداثة الواعية” يكون بحد ذاته عنصرا فائق القوة لإنجاح القصيدة ، فالمتلقي يبهره الجديد دوما ، وعلى هذا تكون القصيدة الحديثة محتاجة بشكل أقل لأدوات الإبداع الأخرى التي تحتاج لها القصيدة المفرغة من التحديث .
أما القصيدة التقليدية فإنها تحتاج إلى محسنات كثيفة تسد الثغرات الفارغة لعناصر التحديث ، لذا نرى الشعراء الكبار المنتسبين للمدرسة التقليدية يعتمدون أساليب وخيارات إضافية لإنجاح القصيدة ، كاستعمال عنصر السلاسة الفعالة في المقطع الشعري كما في قول خالد الفيصل : ” قالت من انت وقلت مجموعة انسان ” أو الاقتباس الذكي للعبارات الشائعة والمحفوظة وذلك كما في قول مساعد الرشيدي : ” حل عن عيني ” والبيت بيتك ” ، وقول علي بن حمري : ” والرجال يذبح في طلي ” .
أو باللجوء للمحسنات البلاغية المشهورة كالطباق والجناس وغيرها وذلك كما في قول مساعد الرشيدي : “ما قلت لك عمر سيف العشق ما يقتلك … ما تشوفني حي قدامك وانا أموت فيك ”
وقول ناصر القحطاني : ” قمت اصيح الصبح وينه والعرب ما رد احدها … ما سمعت إلا صدى صوتي يصيح الصبح وينه ” .
فنستخلص من ذلك ، أن القصيدة كلما خلت من التحديث كلما احتاجت أكثر لاستعمال الأدوات البلاغية المعروفة كي تظهر قصيدة ناجحة.
وهنا يجدر التنويه بأن هذا الرأي لا يتخذ من التحديث كأسلوب شعري منهجا مستقلا في مقابل المنهج القديم لإنجاح النص الشعري ، إنما هو رأي مرتبط بشكل وثيق بعصرنا الذي نعيشه بأسمائه الحاضرة ومادته الأدبية المطروحة ، فلا يصلح استصحاب هذا الرأي لأزمان أخرى قد لا يكون ساري الصلاحية فيها